د. رجائي المعشر
لعل مقاومة الاحتلال والاستعمار بما فيه الاستعمار الاستيطاني هي من أهم وأنبل الممارسات في تاريخ الشعوب. فالمقاومة هي رد الفعل الطبيعي للوجود الأجنبي على أرض الوطن، لأنها تهدف إلى استعادة الحقوق والحرية والسيادة للوطن، ومقاومة المحتل هي أيضا حق تكفله المواثيق والقوانين الدولية.
وتأخذ مقاومة المحتل أشكالا عدة منها المقاومة المسلحة والمقاومة السلمية والمقاومة الاقتصادية والمقاومة الثقافية والإعلامية. ولكل منها وسائل وأساليب عملية وعلمية لتحقيق أهدافها. لكن المقاومة المسلحة عبر التاريخ الحديث وصفت بالإرهاب حيناً لأنها تستخدم كل الوسائل والطرق المتاحة لها لتحقيق هدفها في الحرية والسيادة. ومن هذه الأساليب ما يمكن أن يؤدي إلى ضحايا بين المدنيين في صفوف المحتلين تدينه دول العالم، ولكنه أمر يصعب تفاديه لإحراز التأثير الأكبر على دولة الاحتلال.
بعض حركات التحرر من الاستعمار أو العبودية اتبعت المقاومة السلمية لتحقيق أهدافها مثلما كان تحرير الهند من الاستعمار البريطاني بقيادة غاندي وتحرير الأمريكيين السود من النظام العنصري الأمريكي بقيادة مارتن لوثر كينج. وقد نجحت المقاومة الاقتصادية لدولة التمييز العنصري التي كانت قائمة في جنوب إفريقيا في مساندة الكفاح المسلح للجنوب أفريقيين في إنهاء الحكم العنصري وصولا إلى تولي الأغلبية الأفريقية الحكم بقيادة نيلسون مانديلا.
ومعظم حركات المقاومة ضد الاحتلال تستخدم جميع أشكال المقاومة لتحقيق أهدافها فكل منها يساعد على تحقيق الهدف.
المقاومة الفلسطينية هي مقاومة احتلال الكيان الصهيوني للأراضي الفلسطينية. فهي إذن حركة نضالية نبيلة تسعى إلى استعادة السيادة على الأرض الفلسطينية المحتلة. ومن حقها أن تستخدم جميع أساليب المقاومة لتحقيق أهدافها وحق المقاومة هذا مكفول بالمواثيق الدولية وابرزها ميثاق الأمم المتحدة وغيره من الأعراف الدولية.
لم تبدأ المقاومة الفلسطينية بما حدث في السابع من اكتوبر في العام الماضي 2023 ولن تنتهي به، بل هي حركة نضالية فلسطينية بدأت ضد الاستعمار البريطاني في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. ولا باس من التذكير بأهم وابرز تلك الثورات:
- ثورة 1920 ضد الإنجليز واليهود وجاءت على شكل هبة شعبية ومظاهرات وبعض الأحداث الدموية.
- ثورة البراق عام 1929 ضد الانتداب البريطاني وحماية للحرم القدسي الشريف
- ثورة فلسطين عام 1936 وجاءت ضد الانتداب البريطاني مطالبةً باستقلال فلسطين وإنهاء هجرة اليهود إليها.
وبعد قيام دولة الكيان الصهيوني استمرت الثورات الفلسطينية وبخاصة بعد احتلال الضفة الغربية وغزة عام 1967 وهو الاحتلال الاستيطاني الذي تعززه إسرائيل بعمليات الاستيطان اليهودية للأراضي الفلسطينية. كان أبرز الثورات المعاصرة الانتفاضة الأولى عام 1987 التي وقف بها الأولاد والشباب مستخدمين الحجارة في مواجهة جيش الاحتلال وأسلحته. ثم كانت الانتفاضة الثانية المعروفة باسم انتفاضة الأقصى عام 2000 ومنذ ذلك التاريخ لم تتوقف حركات التحرير في غزة والضفة الغربية حتى يومنا هذا.
المقاومة الفلسطينية هي حق للشعب الفلسطيني لينال كامل حقوقه في دولته المستقلة وعاصمتها القدس. ولا يمكن للكفاح العسكري وحده تحرير الأرض والوطن دون حراك سياسي يرافقه للمساعدة على حشد التأييد لقضيته العادلة من دول العالم. كما أن المقاومة تحتاج إلى بناء قدرات إعلامية لإيصال رسالتها إلى العالم، والرسالة هنا أن ما يجري في فلسطين هو حق الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأراضيه وليس ما يتحدث به العالم الغربي من حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الفلسطينيين المحتلة أراضيهم. والرسالة الثانية هي إسقاط الادعاء الإسرائيلي بأنها حرب دينية فهذه حرب تحرير وليست حربا دينية وهي موجهة ضد الصهاينة الذين يسعون إلى تحويل الدين إلى قومية تبرر قيام دولة إسرائيل وليست موجهة إلى اليهود الذين عاشوا بسلام مع العرب والمسلمين عبر مئات السنين.
ولا يجوز اختزال المقاومة الفلسطينية برموزها فقط. فكل واحد منهم مشروع شهيد، وباستشهادهم لن تتوقف حركة المقاومة، بل أن دماءهم تعطي المقاومة دفعة جديدة وحافزا للاستمرار بجهودها.
يساند المقاومة في كفاحها للوصول إلى أهدافها في تحرير أراضيها حركات نضالية أخرى وأحزاب في دول عديدة ومنظمات مجتمع مدني ودول مساندة للمقاومة لها دورها الهام في تحقيق هذا الهدف السامي. ودور الدول المساندة يختلف عن دور المقاومة الفلسطينية لأنها إذا ما اعتمدت العمل العسكري تصبح دولة معتدية على دولة أخرى وتبعد أنظار العالم عن المقاومة المشروعة. وهنا يبرز السؤال عن ما هو دور الدول المساندة للمقاومة الفلسطينية؟
وكما ذكرت إذا اعتمدت الدول المسانِدة للمقاومة العمل العسكري ضد دولة الاحتلال يصبح من حق دولة الاحتلال بالرد ويُعطي العالم التبرير اللازم للمعتدى عليه باتخاذ كل ما يلزم للدفاع عن نفسه، وهذا في رأيي يعطي غطاءً لدولة الاحتلال لتثبت للعالم وجهة نظرها في أنها حرب دينية مع المسلمين والعرب وأن هدف المقاومة الفلسطينية هو غير ما تعلن من أنها حركة نضالية لإنهاء الاحتلال الصهيوني لأراضيها.
تقوم الدولة المساندة بتقديم كل عون ممكن للمقاومة الفلسطينية فهي تقدم المساعدات الغذائية والدواء والخدمات الطبية للتخفيف من آثار إجراءات الدولة المحتلة العسكرية ضد المقاومة الفلسطينية.
كما تقوم الدولة المسانِدة بطرح مقترحات على العالم لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. فتطالب بحماية المدنيين ومنع التهجير ووقف حرب الإبادة بهدف تمكين المقاومة من الاستمرار في كفاحها المسلح بأقل التكاليف على الشعب الفلسطيني وخاصة المدنيين العزل.
كما تقوم الدولة المسانِدة بحراك دبلوماسي واسع مع عواصم صنع القرار في العالم لشرح قضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وتؤكد ضرورة إنهاء هذا الاحتلال ووضع برنامج زمني لمحادثات جادة لتحقيق آمال الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة.
وأخيرا تستخدم الدولة المسانِدة كل إمكانياتها لدعم الحركة النضالية الفلسطينية مع الحفاظ على التلاحم التام بين أبناء الدولة المسانَدة وبين أبناء شعب الدولة المسانِدة وقيادتِه حتى تتمكن هذه الدولة من إقناع العالم بحقوق الشعب الفلسطيني من منطلق القوة.
وأذكر هنا بمثال واحد وهو ثورة الجزائر التي أسماها جمال عبد الناصر بثورة المليون شهيد وساند هذه الثورة سياسيا وإعلاميا لإيصال صوتها ومطالبها المحقة بالاستقلال والحرية إلى العالم أجمع.
ومن أساليب المقاومة التي تستخدمها الدول المسانِدة بالإضافة إلى ما ذكرت من حراك سياسي ودبلوماسي وإعلامي ودعم معنوي ومادي، المقاومة الاقتصادية ضد دولة المحتل. وهذه المقاومة تتطلب أولا أن تكون الدولة المسانِدة دولة قوية تستطيع القيام بمثل هذه العملية الهامة. وتهدف مقاومة المقاطعة إلى تحقيق أكبر أثر سلبي اقتصادي على دولة المحتل دون أن تلحق بنفسها أضرارا تضعفها وتحد من قدراتها. ويتم ذلك من خلال إقناع دول العالم بمقاطعة المحتل لأنه يقوم بأعمال منافية للقوانين الدولية وميثاق حقوق الإنسان وارتكاب الجرائم ضد الإنسانية كما يقوم بأعمال التطهير العرقي ويشن حرب إبادة على الشعب الفلسطيني. تماما كما تمكنت الدول الإفريقية ودول عدم الانحياز من إقناع العالم بمقاطعة جنوب إفريقيا العنصرية. كما تهدف المقاطعة إلى مقاطعة منتجات الدول التي تدعم دولة المحتل. وهنا علينا أن نميز بين منتجات مصنوعة في دولة تساند المحتل ومنتجات تحمل علامات تجارية أجنبية ولكنها منتجات محلية من إنتاج الدول المسانِدة حتى لا تقع نتائج سلبية على اقتصاديات الدول المسانِدة فيضعفها. وعملية المقاطعة هذه بحاجة إلى متابعة مستمرة وقرارات مبنية على دراسات علمية، وليس تطبيق نظام مقاطعة مبني على احاسيس عاطفية مؤقتة تؤدي إلى نتائج مخالفة لأهداف المقاطعة.
نحن في الأردن في مساندتنا للمقاومة الفلسطينية بكل إمكانياتنا الدبلوماسية والسياسية والمساعدات الإنسانية إلخ... علينا أن نتذكر أننا دولة مستهدفة من قبل الدول الساعية إلى توسيع منطقة نفوذها على أسس مذهبية أو أسس اقتصادية. ونتذكر أن ما يجري على حدودنا الشمالية والشرقية هو واحدة من هذه الاستهدافات. كما أننا نتعرض إلى حملة إعلامية مسعورة تهدف إلى التشكيك بمواقف الأردن تجاه قضيته الأولى قضية فلسطين، وإلى ضغوط اقتصادية من دول إقليمية وعالمية. فمعركتنا هنا متعددة الجوانب ومواجهتها ضرورة حتمية ليبقى الأردن قويا قادرا على تقديم كل دعم ممكن لفلسطين ونضالها الساعي إلى تحريرها من المحتل. وهذا مرة أخرى يتطلب موقفا أردنيا داخليا صلبا خلف قيادتنا التي كان موقفها وما زال متقدما على جميع دول العالم.
نحن في الأردن لا يمكن أن يميز مواطن عن آخر بمقدار حبه لفلسطين وقضيتها. فنحن جميعنا نتألم لألم الأهل في فلسطين ونحن وإياهم في خندق واحد ونحن معهم في نضالهم ومقاومتهم العادلة للاحتلال الغاشم. قد يميزنا طريقة تعبيرنا عن هذا الموقف الموحد للشعب الأردني وهذا أمر طبيعي ولكن لا يجوز أن نسمح لأحد بأن يزايد على الآخر عندما يتعلق الأمر بموقفه وشعوره وقناعته بالقضية الفلسطينية العادلة. ولا بد من التحذير من المزايدة لأنها الطريق التي يستخدمها الذين يستهدفون الأردن لأجل زرع بذور الفتنة والتفرقة بين أبناء الشعب الأردني الواحد. وبفضل وعي هذا الشعب لن يتمكن الذين يستهدفون الأردن من زعزعة وحدتنا الوطنية أو من تفريق التفافنا خلف قيادتنا ومواقفها الواضحة من القضية الفلسطينية.
إن تحرير فلسطين من احتلال الكيان الصهيوني لن يتحقق بين ليلة وضحاها. لذلك علينا أن نكون مستعدين لمقاومة الاحتلال مستخدمين بذلك جميع أشكال المقاومة، وفي الوقت ذاته دعم الدول المساندة وعلى رأسها بلدنا الأردن في محاربة الاستهدافات المشبوهة عليه. وانني لعلى يقين بأنه بفضل المقاومة الفلسطينية وبمساندة الأردن صاحبة قرارها السيادي سيتم تحرير الأرض وتحقيق آمال الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
الرأي